الإيكونوميست المصرية
ولقد صادقت الوقت….. بقلم: نيفين إبراهيم

ولقد صادقت الوقت….. بقلم: نيفين إبراهيم

بقلم: نيفين إبراهيم

اجتهد الإنسان منذ أقدم العصور لاختراع آلة لقياس الزمن إذ لم يكن من السهل أبدا فى الماضى أن يعرف الناس الوقت بالنظر إلى الساعة أو الهاتف النقال كما نفعل نحن الآن.
ومرت الإنسانية بمراحل عدة تم خلالها اختراع الكثير من أجهزة الوقت، فقد اعتمد الإنسان البدائى على مراقبة الشمس لتحديد الوقت واخترع أجهزة بدائية لقياسه، ويقال إن السومريين هم أول شعوب الأرض التى اهتمت بالوقت ونجحوا فى حساب السنة من خلال الشمس، بينما اعتمد المصريون على القمر لتحديد الزمن، ويقال أيضا إن المصريين القدماء اخترعوا آلة تسمى المزولة لتحديد الوقت وتبعهم اليونانيون والرومان . وقسم المصريون القدماء اليوم إلى فترتين كل فترة 12 ساعة واستخدموا المسلات الكبيرة لتتبع حركة الشمس من خلال ظل المسلة على مدار اليوم، ويقال إن المصريين القدماء طوروا أيضا الساعات المائية والتى يُرجح أنها استخدمت للمرة الأولى فى فناء آمون – رع ومنا خرجت إلى العالم، حيث استخدمها أيضا الإغريق.. ولا شك أن كل الأعراق التى عاشت حضارات ملهمة فى التاريخ قد شاركت بشكل أو بآخر فى صنع آلة لقياس الزمن مثل المصريين والإغريق و الصينيين و الهنود واليابانيين.
واخترع الراهب الفرنسى يوتبراندو الساعة الزجاجية فى القرن الثامن، وتقوم فكرتها على وصل مصباحين زجاجين بأنبوب يمر منه الرمل وبناءً على كمية الرمال ونوعيتها وحجم المصباح، يتم قياس الوقت .. وتبعها الساعات المائية التى تقوم فكرتها على ترك الماء ليتقطر ببطء من حاوية أو إناء حيث يكون الإناء مرقما من الداخل فيحدد مستوى الماء، الوقت بسهولة، وكان هذا الاختراع فى القرن السادس عشر قبل الميلاد ببابل. أما الساعة الميكانيكية فقد خرجت من أوروبا فى بداية القرن.
على الرغم من ذلك، يرجع اختراع الساعات الحديثة إلى بيتر هينلين الذى اخترع أول ساعة فى عام 1510 ويلقب بـ “أبو الساعات الحديثة ومؤسس صناعة الساعات” وكانت الساعات آنذاك تحمل بسلسلة ضخمة، وكانت أكبر من أن توضع داخل الجيب، فتم ارتداؤها مثل العقد..
وقام باتيك فيليب وهو مُصنع سويسرى بتصنيع أول ساعة يدوية عام 1868 وقد صنعها لكونتيسة من المجر، وكان الرجال فى الماضى ضد ارتداء الساعات اليديوية، فكانوا يرتدونها من خلال سلاسل توضع فى الجاكيت بينما توضع الساعة فى الجيب.
وعلى مر التاريخ، بدا جليا أن كل من أحسن استخدام وقته، فقد خلده التاريخ، فإذا نظرنا إلى جابرييل جارسيا ماكيز وقصته “مائة عام من العزلة ” مثلا، لابد أن تتأمل كيف استطاع الكاتب أن يمسك بزمام قصة تروى أحداث مدينة من خلال سيرة عائلة بوينديا على مدى سبعة أجيال على مدى عشرة عقود من الزمن يعيشون فى قرية خيالية تدعى “ماكوندو” ويسمون الكثير من أبنائهم فى الرواية بالإسم ذاته .. كيف استطاع أن يقدم الشخصيات المؤثرة وما ترافق معها من أحداث ومشاكل، وحبكات درامية جعلت الرواية التى نشرت فى عام 1967 وطبع منها قرابة ثلاثين مليون نسخة وترجمت إلى ثلاثين لغة . لا شك أن الرواية تعد دليلا حيا على أن الإخلاص فى العمل سواء كان عملا أدبيا أو فنيا أو علميا أو حتى حرفى لابد أن يستلزم استثمارا للوقت فى المعرفة، فالمعرفة فضفاضة تضفى وقارا وهيبة وتجعل الشخص مختلفا، فإذا كان كاتبا، أبدع.. وإن كان ممثلا، عرف كيف يختار أدواره.. وإن كان طبيبا، عرف كيف يصل بمرضاه لبر الأمان واطلع على كل ما هو جديد وطور نفسه.. وإن كان خبازا، استطاع أن يطور منتجه ليتواكب مع تطورات العصر.
أما شركات الهواتف النقالة وتكنولوجيا الاتصالات مثل آبل وسامسونج وسونى وميكروسوفت، فقد استمدت قوتها وصيتها العالمى من قدرتها المتجددة على تحديث منتاجاتها والابتكار والسبق، والعالم كله فى انتظار أحدث إصدارات هذه الشركات، ولعل ما أعلنته شركة آبل من أن آخر إصداراتها سيكون دمج مفتاح السيارة مع الهاتف النقال والساعة، لهو خير دليل على أن نجاح آبل لم يقف على منتج بذاته ولا على شخص مثل ستيف جوبز مثلا، بل ظلت سياسات الشركة ومازالت هى تطوير منتجاتها وهذا هو أفضل استثمار للوقت. أكاد أسمع آبل وهى تقول: “ولقد صادقت الوقت”، فلا يوم يمر بدون استغلال للوقت.
فى الماضى، كنا نستيقظ مبكرا جدا وترسخ فى وجدانى دوما ودائما الاستيقاظ على رائحة خبز جميلة، فقد كانت جدتى تسيتقظ لصلاة الفجر ولا تعود للنوم، بل تدخل مباشرة إلى المطبخ لتحضر بنفسها إفطارا شهيا لابد وأن يتخلله مخبوزات طازجة، وكان لزاما أن يتسلل إلى أنفك، فيوقظك بينما كل حواسك متعطشة لتذوق هذا الشىء الجميل .. أين سيدات اليوم وخاصة من لا يعملن – من جدات الزمن الجميل، لم نعد نرى هذا النموذج، بل أن أغلب السيدات ينمن حتى العصر ولا يقمن بأى عمل مفيد والأدهى هو أنهن يشتكين من شظف العيش وصعوبة الحياة وفقدان الأمل فى غد أفضل.
أما بعض الشباب، فيضيع وقته فى هراء ويشتكى من أنه لم يحصل على فرصته فى الحياة وإذا سألته، لماذا لا تعمل، يكون رده، مفيش عمل مناسب ! وفى ذات الوقت، تجد بعض الشباب الواعى الذى يجيد استخدام وقته، فيعمل بجد واجتهاد ويسعى للحصول على خبرات متعددة ولا يلتفت للعائد المادى فى بداية حياته المهنية بقدر ما يهتم بالخبرة، حيث إنه يعرف أن الخبرة أهم من المال وأن الخبرة هى التى ستوصله فى يوما ما إلى مبتغاه من الحياة الرغدة وللمال..
فى كل مناحى الحياة، يوجد من يجد ليجد ومن يستهتر ويخسر.. الوقت هو هبة الله لكل مخلوقاته، قد أفلح من استخدمه وقد خسر من أضاعه خسرانا مبينا.
إذا نظرنا إلى المصريين ستجد أنهم نجحوا نجاحا مبهرا فى ثورة 25 يناير، بسبب حسن استخامهم للوقت، فلم ييأسوا ولم يغادوا الميدان، ونجحوا كما لم ينجح غيرهم وعندما اكتشفوا أن ثورتهم قد اقتنصها الإخوان، قاموا بمنتهى الذكاء والحكمة بثورة تصحيح أخرى وسملوا القيادة للأصلح فى هذا الوقت .. الديمقراطية ممارسة تتطلب حكمة ودراية ومعرفة لأنها مسئولية وليست لعبة وسيأتى يوم لتداول السلطة بين الأجيال عندما يكون الوقت مناسبا. كانت عبقرية المصريين فى حسن اتخاذ القرار فى الوقت المناسب، ربما لو تأخروا يوما واحدا، لكانت العواقب وخيمة الآن.
وقد ذكر الله عز وجل الوقت فى العديد من الآيات فى القرآن الكريم وقال تعالى”جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا “..

إذا تأملنا الآية الكريمة وتأملنا التاريخ، لن نعجز عن فهم أهمية الوقت، فهو عمليا أغلى ما يملكه الإنسان، إذا مضى، فأنه حتما لا يعود ولا يمكن تغييره ولا يمكن عمل شىء بدونه ولا خارج نطاقه، استغلال الوقت فى عمل مفيد أيا ما كانت بساطته، يزيد من قيمة أنفسنا ويعد استثمارا مضمونا فى مناحٍ مختلفة من مناحى حياة الإنسان.
من استثمر وقته فى بناء نفسه منذ صغره، سيكون حتما إنسانا مختلفا، ومن قضى وقته وهو يتعلم ويتدرب، سيحصل على خبرات فى الحياة تجعل حياته أفضل.. العمل عبادة، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *