الإيكونوميست المصرية

مقال

ترتيبات قدرية

منذ تسع سنوات ، ألتقيت بشيخة محترمة ومثقفة من الأسرة الحاكمة في دولة الإمارات العربية المتحدة وجمعتني بها علاقة عمل وبداية صداقة جميلة ومتميزة .
وفي أحد الأيام سألت عليّ في مكتبي آنذاك ، فعرفت اني في عُمرة .
وعندما عدت من العمرة ، ودخلت بيتي ، فوجئت في أستقبالي بصينية شيكولاتة فاخرة يكاد طولها يصل الي المتر في متر ، مُرتبة مع الورود بطريقة فائقة الأناقة وعليها بطاقة مباركة رقيقة جدا من سمو الشيخة علي العمرة.
بعدها طلبتني في أجتماع عمل وقالت لي انني فتحت نفسها علي الحج (مع العلم بإنها حجت بيت الله أكثر من مرة لانها من الصائمات القائمات الساجدات العابدات والحمد لله ) واننا لابد وان نحج معا وقريبا.
وفي صيف هذا العام ، نزلت أمي رحمها الله إلي مصر ، وبقيت أنا في أبوظبي لأسباب تتعلق بظروف العمل.
وفي أحد أيام الاجازة ، أتصلت ماما بي من مصر وقالت ” انا رحت النهاردة نادي السيارات ولقيتهم معلنين عن رحلة حج فاخر مع أحسن شركة في مصر وحجزت لي ولكِ ” … فرحت جدا وقلت لها ، أحلي خبر سمعته في حياتي، فعلا آن الأوان للحج و علي بركة الله ..
بعد يومين كلمتني أمي مرة أخري وكانت بطبعها شخصية قلوقة ، وقالت لي ، تعرفين ان الحج مشقة وأريد ياسر (ابن أخيها ) أو حازم (بمثابة الأبن الروحي لها ) يطلعوا معانا لأني خائفة جدا من الزحام ، وأضافت “أحتاج لرجل قوي معنا” ، وتابعت “هل تتذكرين كيف أتهرسنا في الروضة الشريفة آخر مرة في العمرة من هول الزحام” ؟! حدث هذا في العمرة ، فما بالك بالحج !!! ، قلت لها بأستياء “ياماما ، ده كان زمان ، احنا هنطلع حج فاخر وبصراحة الأمر محرج جدا ، فكيف نطلب من ياسر او حازم السفر معنا للحج بدون سابق ترتيب ؟ لا نعرف ظروفهم ، وقرار الحج ليس بهذه السهولة ، حتما لابد من الترتيب مسبقا ولا يمكن ان نطلب منهم هذا الطلب فجأة ، خاصة وإنه لم يتبق الا شهرين فقط علي الحج ” . عفوا يا أمي لا أفهمك ، وكررت عليها ” احنا طالعين حج فاخر … كل الناس بيقولوا انه بيكون مُيسر جداً”.
في اليوم التالي ، اتصلت بي ماما مرة أخري وقالت لي بالحرف الواحد “خلاص قررت التأجيل للسنة الجاية وهرتب مع ياسر وحازم حتي يكون لديهم الوقت الكافي لعمل كل الترتيبات “.
قلت في نفسي ، مفيش فايدة ، مهما أحاول فلن أقنعها ، أوكيه يا أمي ، سمعاً وطاعة ، كما تريدين ! .
بعدها بمدة ، أتصلت بي الشيخة الفاضلة ودعتني لمرافقتها في الحج آنذاك ، لأنه حسب ما قالته لي انه انا من شجعتها علي الحج هذا العام ، وقالت لي ، الدعوة لكِ ولأبنتك شيرين ، فشكرتها جدا وقلت لها شيرين مازالت صغيرة ، فهل من الممكن أن تحل أمي محل شيرين ؟ فقالت لي ، الدعوة لكِ ولأمك وأبنتك .
وأذكر انني عندما أبلغت أمي ، قالت لي ، سمعت من صديقة لي ان رحلات الحج مع الشيوخ عادة ما تكون مُيسرة لانه يكون برفقتهم رجال حراسة أشداء ، فضحكت بيني وبين نفسي وقلت لأمي ” مع ان بنتك بمائة رجل ” ، فأكملت أمي قائلة “سبحان الله الرحلة دي من عند ربنا علشاني ، هو أعلم بحالي ويعلم جيدا اني مش بتاعة بهدلة ، علي قد ما ببقي كل سنة نفسي أحج ، علي قد ما بكون خايفة أتعب وما قدرش ، فشاكستها وقلت لها ، لأ دي علشاني أنا !
وكنا قد أُبلغنا بالأمر كله ، أسبوعين بالظبط قبل موعد الحج.. وتحدث إليّ مدير مكتب سموها وطلب مني جوزات سفرنا انا وماما وشيرين .
وبدأنا الأستعدادات ومر يوم وراء يوم والتأشيرات لم تطلع لان الوقت كان جد متأخرا !
وسافرت الشيخة والوفد المرافق لها – وكلهم من الأهل والأصدقاء المقربين جدا من مواطني دولة الامارات – أربع أيام قبل يوم عرفة وبدا واضحا ان هناك صعوبة في أستصدار التأشيرات لنا ، وأذكر اني قلت لأمي عندما سافرت الشيخة ولم يعد يتبقي غير ثلاث ايام علي الحج ، للأسف مفيش نصيب .
وفي اليوم التالي بينما كنت في مكتبي ، تلقيت مكالمة تليفونية من مدير مكتب سموها ، يخبرني بان التأشيرات صدرت وانه علي ان أتجه فورا إلي الطيران الأميري للسفر الي المدينة خلال ساعة علي الأكثر علي متن طائرة خاصة.
أذكر ، اني تركت المكتب وركضت إلي المنزل واتصلت بماما وشيرين في الطريق وقلت لهم أجهزوا ، التأشيرات طلعت وأحنا مسافرين حالا للحج ، وأذكر أمي وهي تستمع إلي وهي في قمة الأستغراب والتوتر من كوننا سنسافر فورا وبدون ترتيب تعرف تفاصيله مسبقا .، فلم تكن أمي من الشخصيات التي يسهل ان تفاجئها بقرارات كهذه ، كانت متوترة جدا خاصة وان موعد سفرنا كان يوم واحد قبل يوم التروية ، يعني عمليا ، كانت كل البعثات والوفود قد وصلت إلي السعودية ومن المستحيل ان يتصور العقل ان نسافر في مثل هذا التوقيت ..
وما ان وصلنا المطار ودخلنا الطائرة الخاصة ، حتي أبتسمت أمي وقالت ، لقد رتب الله هذه الرحلة لي ، هو عارف طاقتي وقدراتي، فعاكستها وقلت ” ليه هو مين اللي تلقي الدعوة من الشيخة ” ؟!
ولن أحكي لكم عن السهولة واليسر التي تمت بها كل الشعائر والمناسك والحرس الملكي الذي رافقنا وكرم الضيافة والأخلاق الراقية من سمو الشيخة في تعاملها معي ومع أمي وأبنتي طوال رحلة الحج … تم كل شيئ بسلاسة ويسر وكان الحج أشبه بالحلم ولا يهم التفاصيل ! المهم اني مهما قلت ، فلن أوفي الشيخة حقها من الشكر والتقدير ..
وفي طواف الوداع ، تعبت أمي وكادت تقريبا أن تفقد الوعي، لكن الله سلم والحمد لله أكملت الطواف وعدنا بسلامة الله الي الإمارات واستقبلنا المهنئين من أقارب وأصدقاء ومعارف وهمس أحدهم وهو شخصية مرموقة جدا في أبوظبي في أذني وهو يبارك لنا في المنزل علي الحج قائلاً ” دعوة الشيخة لكم لمصاحبتها في الحج ، تقدير كبير لكِ ، فهي تختار بعناية فائقة المقربين منها ومن يرافقها ولا يحدث هذا عادة إلا لنُخبة مختارة ” … وبعدها بتسع أيام فقط ، تعبت أمي وكان مرض الموت .
وقتها تذكرت كلمتها التي راحت ترددها طوال رحلة الحج ” الرحلة دي اترتبت بالشكل ده علشاني أنا ” … وفعلا أقتنعت ان الله أراد أستقبالها بمكانتها عنده ، فيسر لها الحج في صحبة ملكية فاخرة يعجز العقل عن أستيعاب تفاصيل الترتيب فهو سيناريو آلهي محكم بحق ، وانا علي يقين ان من يعرفنا ويعرف أمي رحمها الله ، يعلم جيدا أن ذكري لحكاية الحج هذه ، ليس من باب المفاخرة ولا المنظرة ، بل لأقول ان لله ترتيبات تفوق خيال البشر، لانه ببساطة كان بإمكاننا القيام بالحج الفاخر ، فنحن والحمد لله نستطيع ، ولكن الأمر تعدي الجانب المادي، ليصل إلي الجانب الروحاني والمعنوي في الأمر ، فكل من عرف أمي ، يعلم جيدا كيف كانت شخصية معطاءة وكريمة وكيف كانت تصل رحمها وكيف كان بيتها مفتوحا دائما للأهل والأصدقاء والمعارف وكان من المُحال ان ترد أي شخص يطرق بابها في أي أمر خائبا مهما كلفها هذا الأمر ، كانت أيضا هانم مُدللة تشتري راحتها بأي ثمن ولا تقبل إلا بكل ما يليق بها وبشخصيتها المميزة جدا ، تركيبة فريدة جدا، فإن كان للكرم عنوان فهذا العنوان هو “ليلي عثمان “… أمي .
وبسبب هذا الترتيب القدري العجيب تغيرت قناعاتي في الحياة وأصبحت أكثر إيمانًا وأكثر يقينا بأن ما عند الله يبقي وان الحج دعوة من الله وان الله يستقبل عباده بمكانتهم عنده ، وإنه إذا أراد شيئا ، سخر لنا عباده في الأرض والسماء لتحقيقه.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *