الرئيسية / مقالات / رفيق السفر.. بقلم: نيفين إبراهيم

رفيق السفر.. بقلم: نيفين إبراهيم

بقلم: نيفين إبراهيم

كنت أرتب المنزل، فاصطدمت عيناى بحقيبة سفر قديمة.. هذا المشهد استدعى من الذاكرة صداقة عجيبة جدا مع هذه الحقيبة.

اشتريت هذه الحقيية مع أول رحلة عمل للخارج فى بداية التسعينيات، وكانت من ماركة فاخرة ومعروفة وكانت باهظة الثمن آنذاك، ورافقتنى هذه الحقيبة فى كل سفراتى .. كانت دائما تستوعب أى وزن زائد، أنيقة، حًمولة، لم تخذلنى أبدا، إذ كنت أسمع وأرى من زملاء العمل، كيف تكسرت حقائبهم من كثرة تكدس الأشياء وأراهم يهرعون لشراء حقائب للسفر فى آخر لحظة فى طريقنا للعودة إلى قواعدنا سالمين، بينما تستوعب حقيبتى كل مشترياتى وملابسى وأغراضى بدون أى حوادث . وكنت أقول فى نفسى دائما “الأغلى هو الأرخص” والغالى ثمنه فيه.

فى الماضى كانت شركات الطيران تضع ملصقات تحمل اسم المطار الذى سافرت منه الحقيبة وكنت أسعد كلما ازداد عدد الملصقات وازدادت أسماء المطارات على حقيبتى .. حتما لن أفعل نفس الشىء الآن، إذ أحرص على أن تكون حقيبة سفرى أنيقة وخالية من أى ملصق، نحن نتغير بمرور الأيام ولكن الجماد لا يتغير، فقط تتغير أهيمته وتبقى بعض الأشياء شاهد عيان على أحداث وحقب زمنية أحببناها ومثلت جزءا هاما فى رحلة الأيام.

لا أبالغ إذا قلت إن هذه الحقيبة رافقتنى فى أسفارى حول العالم لأكثر من سبعة عشر عاما، حتى جاء يوما ما وانكسرت، وانكسر قلبى معها مع أننى لست من هؤلاء الذين يبالغون فى الحفاظ على مقتنياتهم، بل بالعكس تماما، أنا من هواة التغيير والتوزيع، لذلك كان للحزن الذى شعرت به دلالة على أهمية هذه الحقيبة وما تمثله لى، ربما اعتبرتها تميمة حظ، إذ رافقتنى إلى مدن كثيرة وبلدان جميلة ورافقتنى فى رحلات عمل ناجحة وشهدت لحظات نجاح متميزة وإجازات رائعة وأحيانا أخرى رافقتنى فى رحلات علاج لأقرب الناس إلى قلبى وكأنها رفيق لا يكل ولا يمل من صحبتى.

لم أستطع أن أتخلص من الحقيبة بعد أن انكسرت، آثرت أن أضعها فى مكان ما فى المنزل حتى تظل موجودة، فهى عِشرة العمر والشاهد على أجمل أيام حياتى.. لا أعرف إن كنت أبالغ أم لا، ولكن أعرف أن هناك أشياء نرتبط بها وجدانيا، لا نريد التخلص منها، هذه الأشياء ليس لها قيمة مادية، ولكن من خلالها نسترجع ذكريات تؤكد لنا أن للذاكرة سراديب عميقة تختزن عشرات الجيجا بايت من الذكريات.

ففى الغالب نحن نشعر بالأمان النفسى والراحة والاطمئنان بالعيش فى الماضى الذى نألف ونعرف تفاصيله وأحداثه وأشخاصه، وكأنما بالبقاء على الحقيبة التى لم تعد عمليا تصلح للسفر، فقد آثرت الإبقاء على رمز لحقبة أحببتها جدا فى حياتى.

حكيت لصديقة عمرى عن الأمر، وكانت المرة الأولى التى نتحدث فيها عن هذه الحقيبة، فقالت لى صديقتى التى يشط خيالها فى كثير من الأحيان “أعرف أشخاص يرفضون التخلص من الأشياء التالفة أو عديمة القيمة، ويحتفظون بها بدعوى أنهم قد يحتاجونها فى يوم ما، هؤلاء الأشخاص يعانون من اضطراب اسمه “الاكتناز القهرى” وهو مرض يؤدى فى بعض الأحيان إلى الوفاة “!!

وأضافت صديقتى “مريض الاكتناز القهرى لا يستطيع أبدا أن يتخلص من الأشياء مهما كانت فى حالة يرثى لها أو عديمة القيمة، فتجد البعض، يحتفظ بوردة مُجففة أو صحف قديمة، أثاث تالف، عبوات معدنية وما إلى ذلك، حتى أنك لا تستطيع أن تزوره فى منزله من كثرة الأشياء التى لا قيمة لها ومع هذا يصر على الاحتفاظ بها”.

حقيقة خفت على نفسى جدا، وتذكرت مشهد معروف فى الأفلام، عندما يرى البطل شخصا، يقول له إنه لونه مصفر وشكله تعبان ومرهق، فيصاب بالقلق ويمرض فعلا، وسارعت بالاتصال بصديقة أخرى استشارية فى علم النفس، وسألتها، ما سر احتفاظى بهذه الحقيبة؟ هل أنا من المصابين بمرض الاكتناز القهرى، فقالت ضاحكة: “لا تقلقى، يسهل التمييز بين مرضى اضطراب الاكتناز القهرى وهواة جمع الأشياء .. فالنوع الأول، لا يتخلص من أى شىء أبدا ويتصور أنه سيحتاج له مهما كانت ضآلته فى يوم ما ويجمعون أى شىء وكل شىء بلا تنظيم وبلا ضرورة فعلية ولا حتى مجرد ارتباط الشىء بذكرى معينة .. لاتقلقى إن مرضى الاكتناز القهرى، قد تتحطم أسقف غرفهم من هول الكركبة.. فأنت لست منهم، لقد احتقظتى بالحقيبة لأنها كانت شاهد عيان على مرحلة متميزة فى حياتك، ليس إلا”

كان لابد وأن أفعل شيئا بعد أن استمعت لرأى صديقتى المقربة، فقررت التخلص من الحقيبة، وبعد أن عقدت العزم، واستعديت تماما لهذه الخطوة، قررت فى اللحظة الأخيرة ألا أفعل، فلا شىء يمنع من الاحتفاظ ببعض المقتنيات، تلك التى تستدعى من الذاكرة مواقف ومراحل ولحظات سعيدة عشناها فى زمان ما ومكان ما، لن يفهمها إلا نحن.

ترى هل فعل أحدكم مثلى؟ هل تحتفظون بشىء لم يعد له فائدة؟ لا بأس، إذا كان شىء واحد أو اثنين بالكثير ولكن لو تطور الأمر ووصل إلى حد عدم المقدرة على التخلص من أى شىء وكل شىء، فعليكم باستشارة طبية فورا.

عن Economist2egy

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*