الإيكونوميست المصرية
ترتيبات قدرية……….بقلم: نيفين إبراهيم

ترتيبات قدرية……….بقلم: نيفين إبراهيم

بقلم: نيفين إبراهيم

منذ تسع سنوات، التقيت بشيخة محترمة ومثقفة من الأسرة الحاكمة فى دولة الإمارات العربية المتحدة وجمعتنى بها علاقة عمل وبداية صداقة جميلة ومتميزة.
وفى أحد الأيام، سألت علىّ فى مكتبى آنذاك، فعرفت أنى فى عُمرة.
وعندما عدت من العمرة، ودخلت بيتى، فوجئت فى استقبالى بصينية شيكولاتة فاخرة يكاد طولها يصل إلى المتر فى متر، مُرتبة مع الورود بطريقة فائقة الأناقة وعليها بطاقة مباركة رقيقة جدا من سمو الشيخة على العمرة.
بعدها طلبتنى فى اجتماع عمل وقالت لى إننى فتحت نفسها على الحج (مع العلم بأنها حجت بيت الله أكثر من مرة لأنها من الصائمات القائمات الساجدات العابدات والحمد لله) وأننا لابد أن نحج معا وقريبا.
وفى صيف هذا العام، نزلت أمى رحمها الله إلى مصر، وبقيت أنا فى أبوظبى لأسباب تتعلق بظروف العمل.
وفى أحد أيام الإجازة، اتصلت أمى بى من مصر وقالت “أنا رحت النهارده نادى السيارات ولقيتهم معلنين عن رحلة حج فاخر مع أحسن شركة فى مصر وحجزت لى ولكِ”.. فرحت جدا وقلت لها، أحلى خبر سمعته فى حياتى، فعلا آن الأوان للحج وعلى بركة الله.
بعد يومين، كلمتنى أمى مرة أخرى وكانت بطبعها شخصية قلوقة، وقالت لى، تعرفين أن الحج مشقة وأريد ياسر “ابن أخيها” أو حازم “بمثابة الابن الروحى لها” يطلعوا معانا لأنى خائفة جدا من الزحام، وأضافت “أحتاج لرجل قوى معنا”، وتابعت “هل تتذكرين كيف اتهرسنا فى الروضة الشريفة آخر مرة فى العمرة من هول الزحام؟!” حدث هذا فى العمرة، فما بالك بالحج !!!، قلت لها باستياء “ياماما، ده كان زمان، احنا هنطلع حج فاخر وبصراحة الأمر محرج جدا، فكيف نطلب من ياسر أو حازم السفر معنا للحج بدون سابق ترتيب؟ لا نعرف ظروفهم، وقرار الحج ليس بهذه السهولة، حتما لابد من الترتيب مسبقا ولا يمكن أن نطلب منهم هذا الطلب فجأة، خاصة أنه لم يتبق إلا شهرين فقط على الحج”. عفوا يا أمى لا أفهمك، وكررت عليها “احنا طالعين حج فاخر، كل الناس بيقولوا إنه بيكون مُيسرا جدا”.
فى اليوم التالى، اتصلت بى ماما مرة أخرى وقالت لى بالحرف الواحد “خلاص قررت التأجيل للسنة الجاية وهرتب مع ياسر وحازم حتى يكون لديهم الوقت الكافى لعمل كل الترتيبات”.
قلت فى نفسى” مفيش فايدة، مهما أحاول فلن أقنعها، أوكيه يا أمى، سمعاً وطاعة، كما تريدين”.
بعدها بمدة، اتصلت بى الشيخة الفاضلة ودعتنى لمرافقتها فى الحج آنذاك، لأنه حسب ما قالته لى إنه أنا من شجعتها على الحج هذا العام، وقالت لى، الدعوة لكِ ولابنتك شيرين، فشكرتها جدا وقلت لها شيرين مازالت صغيرة، فهل من الممكن أن تحل أمى محل شيرين؟ فقالت لى، الدعوة لكِ ولأمك وابنتك.
وأذكر أننى عندما أبلغت أمى، قالت لى، سمعت من صديقة لى أن رحلات الحج مع الشيوخ عادة ما تكون مُيسرة لأنه يكون برفقتهم رجال حراسة أشداء، فضحكت بينى وبين نفسى وقلت لأمى “مع إن بنتك بمائة رجل”، فأكملت أمى قائلة “سبحان الله الرحلة دى من عند ربنا علشانى، هو أعلم بحالى ويعلم جيدا إنى مش بتاعة بهدلة، على قد ما ببقى كل سنة نفسى أحج، على قد ما بكون خايفة أتعب وما قدرش، فشاكستها وقلت لها، لا دى علشانى أنا” !
وكنا قد أُبلغنا بالأمر كله، أسبوعين بالظبط قبل موعد الحج.. وتحدث إلى مدير مكتب سموها وطلب منى جوزات سفرنا أنا وماما وشيرين.
وبدأنا الاستعدادات ومر يوم وراء يوم والتأشيرات لم تطلع لأن الوقت كان جد متأخرا !
وسافرت الشيخة والوفد المرافق لها – وكلهم من الأهل والأصدقاء المقربين جدا من مواطنى دولة الإمارات – أربع أيام قبل يوم عرفة وبدا واضحا أن هناك صعوبة فى استصدار التأشيرات لنا، وأذكر أنى قلت لأمى عندما سافرت الشيخة ولم يعد يتبقى غير ثلاثة أيام على الحج، للأسف مفيش نصيب.
وفى اليوم التالى بينما كنت فى مكتبى، تلقيت مكالمة تليفونية من مدير مكتب سموها، يخبرنى بأن التأشيرات صدرت وأنه علىّ أن أتجه فورا إلى الطيران الأميرى للسفر إلى المدينة خلال ساعة على الأكثر على متن طائرة خاصة.
أذكر أنى تركت المكتب وركضت إلى المنزل واتصلت بماما وشيرين فى الطريق وقلت لهم اجهزوا، التأشيرات طلعت واحنا مسافرين حالا للحج، وأذكر أمى وهى تستمع إلىّ وهى فى قمة الاستغراب والتوتر من كوننا سنسافر فورا وبدون ترتيب تعرف تفاصيله مسبقا.، فلم تكن أمى من الشخصيات التى يسهل أن تفاجئها بقرارات كهذه، كانت متوترة جدا خاصة وأن موعد سفرنا كان يوم واحد قبل يوم التروية، يعنى عمليا، كانت كل البعثات والوفود قد وصلت إلى السعودية ومن المستحيل أن يتصور العقل أن نسافر فى مثل هذا التوقيت.
وما إن وصلنا المطار ودخلنا الطائرة الخاصة، حتى ابتسمت أمى وقالت، لقد رتب الله هذه الرحلة لى، هو عارف طاقتى وقدراتى، فعاكستها وقلت “ليه هو مين اللى تلقى الدعوة من الشيخة؟!”
ولن أحكى لكم عن السهولة واليسر التى تمت بها كل الشعائر والمناسك والحرس الملكى الذى رافقنا وكرم الضيافة والأخلاق الراقية من سمو الشيخة فى تعاملها معى ومع أمى وابنتى طوال رحلة الحج … تم كل شىء بسلاسة ويسر وكان الحج أشبه بالحلم ولا يهم التفاصيل! المهم أنى مهما قلت، فلن أوفى الشيخة حقها من الشكر والتقدير.
وفى طواف الوداع، تعبت أمى وكادت تقريبا أن تفقد الوعى، لكن الله سلم والحمد لله أكملت الطواف وعدنا بسلامة الله إلى الإمارات واستقبلنا المهنئين من أقارب وأصدقاء ومعارف وهمس أحدهم وهو شخصية مرموقة جدا فى أبوظبى فى أذنى وهو يبارك لنا فى المنزل على الحج قائلاً “دعوة الشيخة لكم لمصاحبتها فى الحج، تقدير كبير لكِ، فهى تختار بعناية فائقة المقربين منها ومن يرافقها ولا يحدث هذا عادة إلا لنُخبة مختارة”.. وبعدها بتسعة أيام فقط، تعبت أمى وكان مرض الموت.
وقتها تذكرت كلمتها التى راحت ترددها طوال رحلة الحج “الرحلة دى اترتبت بالشكل ده علشانى أنا”.. وفعلا اقتنعت أن الله أراد استقبالها بمكانتها عنده، فيسر لها الحج فى صحبة ملكية فاخرة يعجز العقل عن استيعاب تفاصيل الترتيب فهو سيناريو آلهى محكم بحق، وأنا على يقين أن من يعرفنا ويعرف أمى رحمها الله، يعلم جيدا أن ذكرى لحكاية الحج هذه، ليس من باب المفاخرة ولا المنظرة، بل لأقول إن لله ترتيبات تفوق خيال البشر، لأنه ببساطة كان بإمكاننا القيام بالحج الفاخر، فنحن والحمد لله نستطيع، ولكن الأمر تعدى الجانب المادى، ليصل إلى الجانب الروحانى والمعنوى فى الأمر، فكل من عرف أمى، يعلم جيدا كيف كانت شخصية معطاءة وكريمة وكيف كانت تصل رحمها وكيف كان بيتها مفتوحا دائما للأهل والأصدقاء والمعارف وكان من المُحال أن ترد أى شخص يطرق بابها فى أى أمر مهما كلفها هذا الأمر، كانت أيضا هانم مُدللة تشترى راحتها بأى ثمن ولا تقبل إلا بكل ما يليق بها وبشخصيتها المميزة جدا، تركيبة فريدة جدا، فإن كان للكرم عنوان فهذا العنوان هو “ليلى عثمان”.. أمى.
وبسبب هذا الترتيب القدرى العجيب تغيرت قناعاتى فى الحياة وأصبحت أكثر إيمانًا وأكثر يقينا بأن ما عند الله يبقى وأن الحج دعوة من الله وأن الله يستقبل عباده بمكانتهم عنده، وإنه إذا أراد شيئا، سخر لنا عباده فى الأرض والسماء لتحقيقه.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *